الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
.فوائد لغوية وإعرابية: والضمير في: فاضربوه يعود على النفس لتأويلها بمعنى الشخص والإنسان، أو على القتيل المدلول عليه بقوله: {والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ} والجملة من {اضربوه} في محلّ نصب بالقول. وفي الكلام محذوف والتقدير: قلنا: اضربوه ببعضها فضربوه ببعضها فحيي، إلا أنه حذف ذلك لدلالة قوله: {يُحْيِي الله الموتى} عليه، فهو كقوله: {اضرب بِّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة: 60] أي فضرب فانفجرت وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ} [البقرة: 184] أي: فأفطر فعدّة وقوله: {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة: 196] أي: فحلق ففدية. قوله: {كَذَلِكَ يُحْيِي اللهُ المَوْتَى} {كذلك} في محلّ نصب؛ لأنه نعت لمصدر محذوف تقديره: يحيي الله الموتى إحياء مثل ذلك الإحياء، فيتعلّق بمحذوف، أي: إحياء كائنًا كذلك الإحياء، أو لأنه حال من المصدر المعروف، أي: ويريكم الإراءة حال كمونها مُشَبِهَةً ذلك الإحياء، وقد تقدم أنه مذهب سيبويه. و{الموتى} جمع مَيِّت، وفي هذه الإشارة وجهان: أحدهما: أنها إشارة إلى نفس ذلك الميت. والثاني: أنها احتجاج على صحّة الإعادة. قال الأصم: إنه على المشركين؛ لأنه إن ظهر لهم بالتَّوَاتر أن هذا الإحياء قد كان على هذه الوجه علموا صحّة الإعادة، وإن لم يظهر ذلك بالتواتر، فإنه داعية إلى التفكُّر. قوله: {وَيُريكُمْ آيَاتِهِ} الرؤيا هنا بَصَرية، فالهمزة للتعدية أكسبت الفعل مفعولًا ثانيًا وهو {آياته}، والمعنى: يجعلكم مُبْصرين آياته. وكم هو المفعول الأول، وأصل {يريكم}: يُأَرْإيكم، فحذفت همزة أفعل في المضارعة لما تقدم في {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] وبابه، فبقي يُرْئيكم، فنقلبت حركة الهمزة على الراء، وحذفت الهمزة تخفيفًا، وهو نقل لازم في مادة رأى وبابه دون غيره مما عينه همزة نحو: نأى ينأى ولا يجوز عدم النقل في رأي وبابه إلا ضرورة كقوله: الوافر: .بحث علمي وأخلاقي: أكثر الأمم الماضية قصة في القرآن أمة بني إسرائيل، وأكثر الأنبياء ذكرا فيه موسى بن عمران عليه السلام، فقد ذكر اسمه في القرآن، في مائة وستة وثلاثين موضعا ضعف ما ذكر إبراهيم عليه السلام الذي هو أكثر الأنبياء ذكرا بعد موسى، فقد ذكر في تسعة وستين موضعا على ما قيل فيهما، والوجه الظاهر فيه أن الإسلام هو الدين الحنيف المبني على التوحيد الذي أسس أساسه إبراهيم عليه السلام وأتمه الله سبحانه وأكمله لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم قال تعالى: {ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل} الحج- 78، وبنو إسرائيل أكثر الأمم لجاجا وخصاما، وأبعدهم من الانقياد للحق، كما أنه كان كفار العرب الذين ابتلى بهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم على هذه الصفة، فقد آل الأمر إلى أن نزل فيهم: {إن الذين كفروا سواء عليهم ءأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} البقرة- 6. ولا ترى رذيلة من رذائل بني إسرائيل في قسوتهم وجفوتهم مما ذكره القرآن إلا وهو موجود فيهم، وكيف كان فأنت إذا تأملت قصص بني إسرائيل المذكورة في القرآن، وأمعنت فيها، وما فيها من أسرار أخلاقهم وجدت أنهم كانوا قوما غائرين في المادة مكبين على ما يعطيه الحس من لذائذ الحياة الصورية، فقد كانت هذه الامة لا تؤمن بما وراء الحس، ولا تنقاد إلا إلى اللذة والكمال المادي وهم اليوم كذلك. وهذا الشأن هو الذي صير عقلهم وإرادتهم تحت انقياد الحس والمادة، لا يعقلون إلا ما يجوزانه، ولا يريدون إلا ما يرخصان لهم ذلك فانقياد الحس يوجب لهم أن لا يقبلوا قولا إلا إذا دل عليه الحس، وإن كان حقا وانقياد المادة اقتضى فيهم أن يقبلوا كل ما يريده أو يستحسنه لهم كبراؤهم ممن أوتي جمال المادة، وزخرف الحياة وإن لم يكن حقا، فأنتج ذلك فيهم التناقض قولا وفعلا، فهم يذمون كل اتباع باسم أنه تقليد وإن كان مما ينبغي إذا كان بعيدا من حسهم، ويمدحون كل اتباع باسم أنه حظالحياة، وان كان مما لا ينبغي إذا كان ملائما لهوساتهم المادية، وقد ساعدهم على ذلك وأعانهم على مكثهم الممتد وقطونهم الطويل بمصر تحت إستذلال المصريين، واسترقاقهم، وتعذيبهم، يسومونهم سوء العذاب ويذبحون أبناءهم ويستحيون نساءهم وفي ذلك بلاء من ربهم عظيم. وبالجملة فكانوا لذلك صعبة الانقياد لما يأمرهم به أنبيائهم، والربانيون من علمائهم مما فيه صلاح معاشهم ومعادهم تذكر في ذلك مواقفهم مع موسى وغيره وسريعة اللحوق إلى ما يدعوهم المغرضون والمستكبرون منهم. وقد ابتليت الحقيقة والحق اليوم بمثل هذه البلية بالمدنية المادية التي أتحفها إليها عالم الغرب، فهي مبنية القاعدة على الحس والمادة فلا يقبل دليل فيما بعد عن الحس ولا يسأل عن دليل فيما تضمن لذة مادية حسية، فأوجب ذلك إبطال الغريزة الإنسانية في أحكامها وارتحال المعارف العالية والأخلاق الفاضلة من بيننا فصار يهدد الإنسانية بالانهدام، وجامعة البشر بأشد الفساد وليعلمن نبأه بعد حين. واستيفاء البحث في الأخلاق ينتج خلاف ذلك، فما كل دليل بمطلوب، وما كل تقليد بمذموم، بيان ذلك: أن النوع الإنساني بما أنه إنسان إنما يسير إلى كماله الحيوي بأفعاله الإرادية المتوقفة على الفكر والإرادة منه مستحيلة التحقق إلا عن فكر، فالفكر هو الاساس الوحيد الذي يبتني عليه الكمال الوجودي الضروري فلابد للإنسان من تصديقات عملية أو نظرية يرتبط بها كماله الوجودي ارتباطا بلا واسطة أو بواسطة، وهي القضايا التي نعلل بها أفعالنا الفرديه أو الاجتماعية أو نحضرها في أذهاننا، ثم نحصلها في الخارج بأفعالنا هذا. ثم إن في غريزة الإنسان أن يبحث عن علل ما يجده من الحوادث، أو يهاجم إلى ذهنه من المعلومات، فلا يصدر عنه فعل يريد به إيجاد ما حضر في ذهنه في الخارج إلا إذا حضر في ذهنه علته الموجبة، ولا يقبل تصديقا نظريا إلا إذا اتكئ على التصديق بعلته بنحو، وهذا شأن الإنسان لا يتخطاه البته، ولو عثرنا في موارد على ما يلوح منه خلاف ذلك فبالتأمل والإمعان تنحل الشبهة، ويظهر البحث عن العلة، والركون والطمأنينة إليها فطري، والفطرة لا تختلف ولا يتخلف فعلها، وهذا يؤدي الإنسان إلى ما فوق طاقته من العمل الفكري والفعل المتفرع عليه لسعة الاحتياج الطبيعي، بحيث لا يقدر الإنسان الواحد إلى رفعه معتمدا على نفسه ومتكئا إلى قوة طبيعتة الشخصية فاحتالت الفطرة إلى بعثه نحو الاجتماع وهو المدينة والحضارة ووزعت أبواب الحاجة الحيوية بين أفراد الاجتماع، ووكل بكل باب من أبوابها طائفة كاعضاء الحيوان في تكاليفها المختلفة المجتمعة فائدتها وعائدتها في نفسه، ولا تزال الحوائج الإنسانية تزداد كمية واتساعا وتنشعب الفنون والصناعات والعلوم، ويتربى عند ذلك الاخصائيون من العلماء والصناع، فكثير من العلوم والصناعات كانت علما أو صنعة واحدة يقوم بأمرها الواحد من الناس، واليوم نرى كل باب من أبوابه علما أو علوما أو صنعة أو صنائع، كالطب المعدود قديما فنا واحدا من فروع الطبيعيات وهو اليوم فنون لا يقوم الواحد من العلماء الاخصائيين بأزيد من أمر فن واحد منها. وهذا يدعو الإنسان بالالهام الفطري، أن يستقل بما يخصه من الشغل الإنساني في البحث عن علته ويتبع في غيره من يعتمد على خبرته ومهارته. فبناء العقلاء من أفراد الاجتماع على الرجوع إلى أهل الخبرة وحقيقة هذا الاتباع، والتقليد المصطلح والركون إلى الدليل الاجمالي فيما ليس في وسع الانسان أن ينال دليل تفاصيله كما أنه مفطور على الاستقلال بالبحث عن دليله التفصيلي فيما يسعة أن ينال تفصيل علته ودليله، وملاك الأمر كله أن الإنسان لا يركن إلى غير العلم، فمن الواجب عند الفطرة الاجتهاد، وهو الاستقلال في البحث عن العلة فيما يسعه ذلك والتقليد وهو الاتباع ورجوع الجاهل إلى العالم فيما لا يسعه ذلك، ولما استحال أن يوجد فرد من هذا النوع الإنساني مستقلا بنفسه قائما بجميع شئون الأصل الذي يتكي عليه الحياة استحال أن يوجد فرد من الإنسان من غير اتباع وتقليد، ومن ادعى خلاف ذلك أو ظن من نفسه أنه غير مقلد في حياته فقد سفه نفسه. نعم: التقليد فيما للإنسان أن ينال علته وسببه كالاجتهاد فيما ليس له الورود عليه والنيل منه، من الرذائل التي هي من مهلكات الاجتماع، ومفنيات المدنية الفاضلة ولا يجوز الاتباع المحض إلا في الله سبحانه لأنه السبب الذي إليه تنتهي الأسباب. اهـ. .تفسير الآية رقم (74): .مناسبة الآية لما قبلها: ولما كان حصول المعصية منهم بعد رؤية هذه الخارقة مستبعد التصور فضلًا عن الوقوع أشار إليه بقوله: {ثم قست} من القسوة وهي اشتداد التصلب والتحجر {قلوبكم} ولما كانت لهم حالات يطيعون فيها أتى بالجار فقال: {من بعد ذلك} أي من بعدما تقدم وصفه من الخوارق في المراجعات وغيرها تذكيرًا لهم بطول إمهاله لهم سبحانه مع توالي كفرهم وعنادهم، وتحذيرًا من مثل ما أحل بأهل السبت {فهي} أي فتسبب عن قسوتها أن كانت {كالحجارة} التي هي أبعد الأشياء عن حالها، فإن القلب أحيى حيّ والحجر أجمد جامد، ولم يشبهها بالحديد لما فيه من المنافع، ولأنه قد يلين. ولما كانت القلوب بالنظر إلى حياتها ألين لين وبالنظر إلى ثباتها على حالة أصلب شيء كانت بحيث تحير الناظر في أمرها فقال: {أو}. قال الحرالي: هي كلمة تدل على بَهم الأمر وخفيته فيقع الإبهام والإيهام. انتهى. وهذا الإبهام بالنسبة إلى الرائين لهم من الآدميين، وأما الله تعالى فهو العالم بكل شيء قبل خلقه كعلمه به بعد خلقه وزاد أشد مع صحة بناء أفعل من قسى للدلالة على فرط القسوة فقال: {أشد قسوة} لأنها لا تلين لما حقه أن يلينها والحجر يلين لما حقه أن يلينه وكل وصف للحي يشابه به ما دونه أقبح فيه مما دونه من حيث إن الحي مهيأ لضد تلك المشابهة بالإدراك. ولما كان التقدير فإن الحجارة تنفعل بالمزاولة عطف عليه مشيرًا إلى مزيد قسوتهم وجلافتهم بالتأكيد قوله: {وإن من الحجارة} وزاد في التأكيد تأكيدًا لذلك قوله: {لما يتفجر} أي يتفتح بالسعة والكثرة {منه الأنهار} ذكر الكثير من ذلك وتذكيرًا بالحجر المتفجر لهم منه الأنهار بضرب العصا ثم عطف على ذلك ما هو دونه فقال: {وإن منها لما يشقق} أي يسيرًا بتكلف بما يشير إليه الإدغام والتفعل من التشقق وهو تفعل صيغة التكلف من الشق وهو مصير الشيء في الشقين أي ناحيتين متقابلتين- قاله الحرالي. {فيخرج منه الماء} الذي هو دون النهر، ثم عطف على هذا ما هو أنزل من ذلك فقال: {وإن منها لما يهبط من خشية الله} أي ينتقل من مكانه من أعلى الجبل إلى أسفله لأمر الملك الأعلى له بذلك وقلوبكم لانتقاد لشيء من الأوامر فجعل الأمر في حق القلوب لما فيها من العقل كالإرادة في حق الحجارة لما لها من الجمادية وفي ذلك تذكير لهم بالحجارة المتهافتة من الطور عند تجلي الرب. قال الحرالي: والخشية وجل نفس العالم مما يستعظمه. ولما كان التقدير: فما أعمالكم- أو: فما أعمالهم، على قراءة الغيب- مما يرضي الله؟ عطف عليه {وما} ويجوز أن يكون حالًا من قلوبكم أي قست والحال أنه ما {الله} أي الذي له الكمال كله {بغافل} والغفلة فقد الشعور بما حقه أن يشعر به {عما تعملون} فانتظروا عذابًا مثل عذاب أصحاب السبت إما في الدنيا وإما في الآخرة، ولم أر ذكر قصة البقرة في التوراة فلعله مما أخفوه لبعض نجاساتهم كما أشير إليه بقوله تعالى: {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيرًا} [الأنعام: 91] والذي رأيت فيها مما يشبه ذلك ويمكن أن يكون مسببًا عنه أنه قال في السفر الخامس منها ما نصه: فإذا وجدتم قتيلًا في الأرض التي يعطيكم الله ربكم مطروحًا لا يعرف قاتله يخرج أشياخكم وقضاتكم ويذرعون ما بين القتيل والقرية، فأية قرية كانت قريبة من القتيل يأخذ أشياخ تلك القرية عجلًا لم يعمل به عمل ولم يحرث به حرث، فينزل أشياخ تلك القرية العجل إلى الوادي الذي لم يزرع ولم يحرث فيه حرث يذبحون العجل في ذلك الوادي ويتقدم الأحبار بنو لاوى الذين اختارهم الله ربكم أن يخدموا ويباركوا اسم الرب وعن قولهم يقضي كل قضاء ويضرب كل مضروب، وجميع أشياخ تلك القرية القريبة من القتيل يغسلون أيديهم فوق العجل المذبوح في الوادي ويحلفون ويقولون: ما سفكت أيدينا هذا الدم وما رأينا من قتله فاغفر يا رب لآل إسرائيل شعبك الذين خلصت، ولا تؤاخذ شعبك بالدم الزكي، ويغفر لهم على الدم وأنتم فافحصوا عن الدم واقضوا بالحق وأبعدوا عنكم الإثم واعملوا الحسنات بين يدي الله ربّكم. انتهى. وهو كما ترى يشبه أن يكون فرع هذا الأصل المذكور في القرآن العظيم. والله أعلم. اهـ.
|